تقوم أسطورة هيرمس الإغريقية على نظرية الكذب والحيلة، وهي أن الطفل هيرمس وهو في المهد قفز من مهده وسرق قطيعاً من الغنم، وحين استحضره القاضي تساءل الطفل الصغير قائلاً: كيف أسرق يا سيدي وأنا طفل في المهد، ومنذ تلك القصة جاءت أسطورة هيرمس الذي أصبح عند الإغريق إله البلاغة والتجارة، وهما معاً فنان ينجحان في صناعة أمهر الكذبات.

ولو عرف الإغريق عن مجلس الأمن لجعلوه نموذجاً آخر لهيرمس الأسطوري، وإله البلاغة والتجارة سيضم لمملكته السياسة والتي أصبحت فن (غير) الممكن وفن المستحيل، ومثالها مجلس الأمن، حيث يشهد العالم كله كيف تتجلى بلاغيات الكذب وتلعب مجازات اللغة وأجمل صيغها ألاعيب َ لم يبلغها الشعراء في تاريخ الشعر مذ كان حتى اليوم وما بعد اليوم، واستحضار مواقف الدول الغربية بين أوكرانيا والأطفال زرق العيون وشقر الشعور وبين أطفال فلسطين في تزامن رهيب سمح للمقارنات أن تكشف درجات الكذب والحيل الخطابية وفي ترويج الباطل في صيغة الحق، مع حشر الحق في صيغة الباطل، وكلها تحت جملة واحدة هي (حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها)، وهذا حق مطلق لا يمكن الجدال عليه، ولكن هل يقابل ذلك حق أطفال فلسطين في حماية حقهم في الوجود …!

هذا سؤال رسبت فيه أخلاقيات الدول الغربية الثلاث في مجلس الأمن، في حين لم يفت عليهم حق أطفال أوكرانيا وهذا لا جدال عليه أيضاً، لكن حقوق الطفل الفلسطيني ظلت معلقة في فضاء المجازات السياسية، حيث يتكشف هيرمس الحديث بوصفه أسطورة الزمن الغربي كله منذ زمن أوروبا الأول إلى كذبة عمارة الأرض التي تحولت إلى استعمار الأرض، وكذبة الدمار الشامل في العراق ومثلها سيرة مجلس الأمن الذي أصبح (الأمن) عنده مجرد تورية ثقافية يحمل نقيض ما يعني عبر معنى قريب خدّاع ومعنى بعيد هو واقع دلالي لمهارة العقل البشري على صناعة الكذب والترويج له وكسب المواقف بناء على أكذوبة، وهذا منطق القوة والهيمنة، حيث تصبح المعاني جيشاً رديفاً للجيش المادي والجيش الحربي، وكلها جيوش تملك قوة القرار وقوة تزوير الدلالات لمصلحة من بيده تغيير مجريات الواقع وتحويل الباطل إلى حق، والحق يتحول إلى مسألة تفاوضية.

*كاتب ومفكر سعودي- أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض